### **"حميمية الغرباء": في تاريخ الخصوصية الهش بين الستر والفضيحة**
في عالم يتسارع فيه الاتصال وتتشابك فيه الحيوات
الرقمية، تبرز مفارقة كبرى: نحن نفضي بمخاوفنا وأعمق أسرارنا لمحركات البحث
وخوارزميات التواصل الاجتماعي، بينما نتحفظ على مشاركتها مع أقرب الناس إلينا. هذا
التنازل الطوعي عن أكثر ما يميز إنسانيتنا – فضائنا الخاص – يطرح سؤالاً جوهرياً: ما
هي الخصوصية؟ هل هي حق أصيل، أم درع يختبئ خلفه المخطئون؟ وهل هي قيمة تتآكل أم
إنجاز حضاري يجب الدفاع عنه؟
![]() |
### **"حميمية الغرباء": في تاريخ الخصوصية الهش بين الستر والفضيحة** |
- في هذا السياق المشحون بالأسئلة، يأتي كتاب المؤرخة الثقافية البريطانية تيفاني جينكينز، "حميمية
- الغرباء: قيام وانهيار الحياة الخاصة" (Strangers and Intimates: The rise and fall of
- private life)، ليقدم تشريحاً ثقافياً وتاريخياً عميقاً لهذا المفهوم المراوغ. لا يقدم الكتاب، كما يشير
- المراجع نيخيل كريشمان في "ذي نيوستيتسمان"، تاريخاً للحياة الخاصة بحد ذاتها، فتلك مهمة شبه
- مستحيلة، بل يقدم ما هو أهم: تاريخ الصراع الفكري حول قيمة الخصوصية، مستعرضاً الجبهات
- التي هاجمتها وتلك التي دافعت عنها عبر العصور.
#### **الجبهات المناهضة للخصوصية تحالف غير مقدس**
يبدأ الكتاب بتسليط الضوء على هجوم متعدد الأوجه تتعرض له الخصوصية، من مصادر تبدو متباعدة ولكنها تلتقي في شكوكها العميقة. على رأس هذه الجبهة يقف عمالقة التكنولوجيا، ممثلين في مقولة الرئيس التنفيذي السابق لـ"غوغل"، إريك شميت، الصادمة:
- "لو أن لدى أحدكم شيئاً لا يريد أن يعرفه أحد، فقد يجدر به ألا يفعله في المقام الأول". هذه المقولة
- التي تبدو بريئة للوهلة الأولى، تحمل في طياتها منطقاً شمولياً خطيراً، يفترض أن كل ما هو سري هو
- بالضرورة سيء، وهو صدى مباشر، كما يلاحظ كريشمان، لواعظ من القرن السابع عشر كان
- يساوي بين القاتل والزاني في رغبتهما في الخصوصية.
لكن الهجوم لا يقتصر على عالم التكنولوجيا. تنضم إلى هذا التحالف أطراف أخرى، فمن جهة، نجد أصواتاً من النسوية الراديكالية، مثل الباحثة القانونية كاثرين ماكينون، التي ترى في الخصوصية "المعقل الأخير لضاربي زوجاتهم" ووسيلة لـ"سيادة الذكور" عبر إخفاء العنف المنزلي عن المحاسبة العامة.
ومن جهة أخرى، نجد الصحافة الصفراء، التي برر محررها بول مكمولان انتهاكاتها بأن الخصوصية "هبة للمتحرشين بالأطفال". وهكذا، تتشكل جبهة عريضة من عمالقة التكنولوجيا، وبعض المنظرين الأيديولوجيين، وسلطة الإعلام الفضائحي، تتفق جميعها على أن الشفافية المطلقة هي الحل، وأن الحق في الستر هو ستار للجريمة.
#### **الدفاع عن الخصوصية ما وراء الأسرار المظلمة**
في مواجهة هذا الهجوم الشرس، يقدم كتاب جينكينز دفاعاً صلباً عن الحاجة الإنسانية والمجتمعية للخصوصية، موضحاً أنها أبعد ما تكون عن مجرد غطاء للأفعال المشينة. فالإنسان الذي لا يريد أن تعرف شماله ما أنفقت يمينه، والمريض الذي يفضل إبقاء حالته الصحية سراً عن أسرته ليحميهم من القلق
- والمرأة التي ترغب في الحفاظ على خصوصية خياراتها الشخصية، والمعارض السياسي في نظام
- قمعي الذي يسعى لإخفاء قراءاته ومراسلاته عن أعين الدولة، والباحث الذي يحمي هوية المشاركين
- في دراساته، كل هؤلاء وغيرهم يمتلكون أسباباً مشروعة ونبيلة للتمسك
بالستر.
تجادل جينكينز بأن الخصوصية ليست مجرد "الحق
في أن نُترك وشأننا"، كما صاغها القانونيان الأمريكيان صمويل وارين ولويس
برانديز في مقالتهما الشهيرة عام 1890، بل هي شرط أساسي للإبداع، ولنمو الذات،
ولتكوين علاقات حميمية حقيقية. إنها المساحة التي نختبر فيها الأفكار، ونرتكب
الأخطاء، ونتصالح مع أنفسنا بعيداً عن أعين الرقباء والحكم الفوري. إنها "غرفة
تخص المرء وحده" التي طالبت بها فرجينيا وولف، ليس فقط كمكان مادي، بل كشرط
للخيال والإبداع والحرية الفكرية.
#### **مسار تاريخي شاق من الروح إلى جدران المنزل**
يأخذنا الكتاب في رحلة تاريخية رائعة، متتبعاً الجذور العميقة لفكرة الخصوصية في الغرب. لم تبدأ الفكرة مع الجدران والأبواب، بل مع الروح والضمير. في عصر الإصلاح الديني، أرسى مفكرون مثل مارتن لوثر وتوماس مور مبدأ الضمير الفردي، فمقولة "جسدي قد تعذبونه
- أما معتقداتي فهي لي وحدي" كانت الإعلان الأول عن وجود مجال داخلي لا يمكن للسلطة الخارجية
- اختراقه. هذا المفهوم تبلور سياسياً في قول الملكة إليزابيث الأولى الحكيم: "إنني لا أسعى إلى امتلاك
- نافذة على أرواح الناس"، وهو القول الذي تحول لاحقاً إلى مبدأ
قانوني.
لاحقاً، انتقل المفهوم من الفضاء الداخلي للروح
إلى الفضاء المادي للمنزل. شهد العصر الفيكتوري هوساً بـ"حرمة منزل الأسرة"،
وتحول البيت إلى "قلعة" تحمي أفرادها من العالم الخارجي. هذا التطور
انعكس معمارياً في تصميم المنازل ذات الأسوار والغرف المنفصلة، كما امتد ليشمل
حرمة المراسلات الخاصة، وهو ما ظهر جلياً في الجدل الذي أثارته فضيحة قيام الشرطة
البريطانية بفتح رسائل القومي الإيطالي جيسيبي مازيني.
- لكن هذا المسار لم يكن خطياً أبداً. ففي الستينيات من القرن العشرين، انقلبت الطاولة. ارتبطت
- الخصوصية بالنفاق والقمع البرجوازي، وتبنت الثقافة المضادة شعار "دع كل شيء يظهر"، حيث
- أصبح الاعتراف العلني والشفافية الكاملة فضيلة ثورية. وتزامن ذلك مع هوس تكنولوجي بالمراقبة
- غذته أفلام الجاسوسية وبلغ ذروته في فضيحة ووترغيت، التي كشفت عن الوجه المظلم لسلطة الدولة
- في التجسس على مواطنيها.
#### **البانوبتيكون الرقمي والانهيار الطوعي**
تقودنا هذه الرحلة إلى لحظتنا الراهنة، التي
تمثل، بحسب جينكينز، أخطر مراحل انهيار الحياة الخاصة. فاليوم، لا نواجه فقط
مراقبة الدولة أو الشركات، بل نواجه ما هو أدهى: المراقبة الذاتية والتنازل الطوعي
عن خصوصيتنا. لقد حول تلفزيون الواقع، منذ تجربة "عائلة أمريكية" في
السبعينيات وحتى البث المباشر لحياة جينيفر رينغلي بكل تفاصيلها، الخاص إلى عام،
واليومي إلى مشهد استعراضي.
- ثم جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتكرس هذا التحول، حيث أصبحنا مديرين ومنتجين لحيواتنا
- المعروضة على الملأ. نحن نراقب أنفسنا ونشجع الآخرين على مراقبتنا، ونحول طفولتنا وعلاقاتنا
- ولحظات ضعفنا إلى محتوى رقمي. وكما يلاحظ كريشمان بمرارة، "نحن نتنازل طوعاً عن حقنا في
- الخصوصية في مقابل منافع تبدو للمتأمل شديدة التفاهة... بضعة متابعين إضافيين، وبضع دقائق من
- خدمة
الواي فاي".
ولا يتوقف الخطر عند هذا الحد، بل يمتد إلى
التشريعات التي، بنوايا حسنة أحياناً، تجرم ما يحدث داخل المنازل. يشير المراجع
روبرت كرستيانسن في "ديلي تلغراف" إلى قانون جريمة الكراهية في
اسكتلندا، الذي يجرّم نظرياً حتى الكلمات التي تقال على مائدة العشاء، محولاً المنزل
من قلعة آمنة إلى مسرح محتمل للجريمة.
#### ** ناقوس خطر لحضارة مهددة**
في نهاية المطاف، يمثل كتاب "حميمية
الغرباء" صرخة تحذير قوية ومحكمة. إنه يذكرنا بأن الخصوصية ليست ترفاً أو
شراً لا بد منه، بل هي إنجاز تاريخي شاق، وركيزة أساسية للديمقراطية، وشرط لا غنى
عنه لازدهار الفردية والإبداع والعلاقات الإنسانية العميقة.
الختام
حذر الفيلسوف توماس نايغل في مقالته النبوئية "الإخفاء والفضح" عام 1998، فإن "الحضارة ستكون أمراً محالاً لو أن بوسعنا جميعاً أن ننفذ إلى عقول بعضنا بعضاً". إن الدعوة إلى الشفافية المطلقة هي دعوة إلى عالم مسطح، خالٍ من الغموض والعمق والتعددية، عالم يصبح فيه كل فرد رقيباً على نفسه وعلى الآخرين.
يقف كتاب تيفاني جينكينز كاعتراض قوي على هذا المستقبل البائس، وكنـداء ثمين للدفاع عن ذلك "الفضاء الذي يحتاج إليه الطيبون لعمل الطيبات"، قبل أن ننسى أهميته ونفقده إلى الأبد.